موعظة اياك والغضب


ا
لسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي له ملك السموات والأرض وله الحمد في الآخرة، خلق كلَّ شيء فقدره تقديراً، أحمده سبحانه على نعمه وفضله، وأشكره على إحسانه وجوده، وأشهد له بالوحدانية، وأقر له بالربوبية، فلا إله إلا الله، ولا معبود حق إلا هو جلَّ في علاه، (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ).
وأشهد أنّ محمداً عبد الله ورسوله وخليله، أرسله بالبينات والهدى وجبله على كريم الطباع وأشرف الخصال، وأثني على خلقه فقال: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ).
اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعهم إلى يوم الدين.

أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، والتمسك بالقرآن والسنة، والاعتصام بهما، فما ضلّ ولا زاغ من عمل بهما ودعا إليهما، بل من تمسك بهما حقق الله له سعادة الدارين.

أيّها المسلمون:

خُلق الإنسان من ضعف، وهو في هذه الدنيا ممتحن، يغضب ويرضى، ويحزن ويفرح، ويمرض ويصح، ولذا وطّن العقلاء نفوسهم على الصبر والتحمل، والأناة والتحلم، أما غيرهم فيسخط ويسب، وقد يبلغ به الغضب إلى حد الجنون، فيضرب بغير حق، ويقذف ويلعن، وربما كسر عظماً، أو هدم أسرةً، وحلَّ وثاق الزوجية.

يا عباد الله:
ذلكم ما يفعله الغضب بأصحابه حينما يستسلمون له، ويعتادون عليه.

أيها الإخوة:
الغضب جماع الشر لأنه من الشيطان؛ فهو يشل تفكير المرء، ويلغي مروءته، ويحرك في نفسه نوازع الشر والعدوان، ولهذا ثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه: "أنّ رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني. قال: لا تغضب. فردّد مراراً. قال: لا تغضب". [رواه البخاري].
فتأمل - رحمك الله - كيف كرر هذا السائل على النبي صلى الله عليه وسلّم السؤال، وهو يلتمس أنفع وأبلغ مما أوصاه به، فلم يزد صلى الله عليه وسلم على قوله: "لا تغضب".
أن في هذه الوصية سعادة الدنيا والآخرة، فالغضب يؤدي إلى التقاطع، وحرمان الرفق، ويفتح أبواب الآثام والفتن، فكم جرَّ من المآسي على الأفراد والمجتمعات؟! وكم صار سبباً في تفرق الإخوة والإخوان، والأولاد والأزواج؟!.
ويكفي في بيان قُبح الغضب أنه جمرة تتوقد في قلب الإنسان فيزيدها الشيطان اشتعالاً، فيكون من نتائج ذلك الأذى والعدوان وإطلاق اللسان، والقرارات الجائرة، والمبادرات الظالمة التي يعقبها الحسرة والألم.

أيها المسلمون:
الشجاعة والقوة ليست بقوة البدن فحسب بل هي بقوة النفس وكظم الغيظ.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: "ليس الشديد بالصُّرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب".
وإنّ الموفق إلى الخير هو الذي يفكر في العواقب عند ثوران الغضب ويتذكر ما وعد الله به الكاظمين لغيظهم من أجر وثواب.
روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة عن معاذ بن أنس الجهني عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: "من كظم غيظاً وهو يستطيع أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق، حتى يخيره في أيّ الحور شاء".
وفي المسند من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: "ما تجرّع عبدٌ جُرعةً أفضلَ عند الله من جرعة غيظٍ يكظمها ابتغاء وجه الله عز وجل".
"وجاء رجلٌ إلى سلمان الفارسي رضي الله عنه فقال أوصني قال: لا تغضب فقال الرجل: أمرتني أن لا أغضب وإنه ليغشاني ما لا أملك قال: فإن غضبت فاملك لسانك ويدك".
وبخلق الحلم وترك الغضب أخذ جمع من أسلافنا، ومما يُروى: "أنّ رجلاً شتم عمر بن ذر فقال له عمر: إني أمَتُّ مشاتمة الرجل صغيراً فلن أحييها كبيراً، وإني لا أكافئ من عصى الله فيَّ بأكثر من أن أطيع الله فيه".
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "من اتقى الله لم يشف غيظه، ومن خاف الله لم يفعل ما يشاء".
وقال معاوية رضي الله عنه: "لا يبلغ العبد مبلغ الرأي حتى يغلب حلمه جهله وصبره شهوته ولا يبلغ ذلك إلا بقوة العلم".
وسئل عرابة الأوسي رحمه الله: "بم صِرْت سيد قومك؟! قال: كنت أحلم عن جاهلهم، وأعطي سائلهم، وأسعى في حوائجهم".
ويروى أن المهلب بن أب صفرة - وكان قائداً ذكياً - مرَّ يوماً على قوم وفيهم شاب فقال هذا الشاب لصاحبه: أهذا هو المهلب؟! فقال صاحبه: نعم. فاستخف الشاب به لما رآه وقال: هذا والله لا يساوي خمسمائة درهم، فسمعه المهلب وأكرم نفسه بعدم الالتفات إليه، ولما أمسى الليل أخذ المهلب معه خمسمائة درهم وأتى الشاب، وقال له: خذ هذه خمسمائة درهم قيمة عمك المهلب، والله يا ابن أخي لو قيمتي خمسة آلاف لأتيتك بها، فخجل الشاب وقال: ما أخطأ من جعلك سيداً.
وقد وصف الشاعرُ مثل هذا الموقف بقوله:
وإذا بغى باغٍ عليك بجهله
فاقتله بالمعروف لا بالمنكر


وأعظم من هذا حِلم إمام المتقين صلى الله عليه وسلّم فحينما جذبه الأعرابي جذبةً شديدةً أثرت في عنقه وقال: يا محمد أعطني من مال الله الذي عندك فإنك لا تعطي من كدِّك ولا من كد أبيك فتبسم ثم أمر له بعطاء، فعن أنس بن مالك قال: "كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه رداء نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة، نظرت إلى صفحة عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أثرت بها حاشية الرداء من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد، مر لي من مال الله الذي عندك. فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك، ثم أمر له بعطاء".
وقال صلى الله عليه وسلم لأهل مكة، وقد أخرجوه وأذوه وأصحابه: "اذهبوا فأنتم الطلقاء". وعفى عنهم صلوات الله وسلامه عليه.

أيها المسلمون:
إنّ مما يهيج الغضب: المراءُ والجدل، والمزاحُ المتجاوز لحدود الأدب، والتعدي على الآخرين، والعلو والتكبر في الأرض، وغفلةُ الإنسان عن آثار الغضب السيئة، وترك مجاهدة النفس.

فيا أيها العقلاء:
كم في الغضب من ضرر وشر، فبسببه يقع المرء في ذل الاعتذار وفي الحديث: "إياك وكل ما يعتذر منه". [رواه أحمد وابن ماجة].
كم من أبٍ طرد ابنه نتيجة الغضب فصار الابن مع عصابة الأشرار وأصحاب المخدرات والمسكرات؟! وكم من غضبة أفرزت طلاقاً بائناً، وهدمت أسرة قائمة؟! فصار مصير الأولاد الضياع والتشتت، فندم المرءُ، ولات ساعة مندم.
قال علي رضي الله عنه: "الغضب أوله جنون وآخره ندم".
وقال أبو العتاهية:
ولم أرَ في الأعداء حين اختبرتهم
عدواً لعقل المرءِ أعدى من الغضب


إنّ الغضب يولد الحقد في النفوس، وانطلاق اللسان بالشتم والسب، واليد بالضرب والاعتداء، ولهذا أوصى العقلاء بتأخير العقوبة إلى حال الرضا.
كتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله إلى أحد ولاته: "لا تعاقب عند غضبك، وإن غضبت على رجل فاحبسه، فإذا سكن غضبك فأخرجه، وعاقبه على قدر ذنبه".
إن من التوفيق أن يُهدى الإنسان لقول الحق والعمل به في الرضى والغضب، ولهذا كان من دعائه صلى الله عليه وسلّم: "وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا".
يقول ابن رجب رحمه الله: "وهذا عزيزٌ جداً أن الإنسان لا يقول سوى الحق سواء غضب أو رضي، فإن أكثر الناس إذا غضب لا يتوقفُ فيما يقول". أ.هـ
اللهم اهدنا لأحسن الأعمال والأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئ الأعمال والأخلاق، لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.
(إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ).
وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المؤمنين والمؤمنات من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.